سورة القصص - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)} [القصص: 28/ 79- 82].
لقد باهى قارون الناس، فخرج على قومه في موكب بهي، في زينة عظيمة وأبهة واضحة، وتجمّل باهر، في الملابس والمراكب، هو وحاشيته، بقصد التّعالي على قومه، وإظهار التّرفّع والمهابة، فاغتر الجهلة أهل الدنيا وزينتها به وبمظاهره، وتمنّوا ما لديه وقالوا: يا ليت لنا من الثروات والأبهة ما لقارون، لنتمتّع بها مثله، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا.
وقال الفريق الآخر، وهم أولو العلم والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به زاجرين الجهلة الذين تمنّوا حال قارون: ويلكم (وهذه كلمة زجر) ثواب اللّه خير لمن آمن وعمل صالحا، يلقاه في الدار الآخرة، وهو أفضل مما تتمنّون، ويكون حال المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب اللّه خيرا من حال صاحب الدنيا فقط، ولكن لا يتلقّى هذا الثواب العظيم أو الجنة إلا الصابرون على طاعة اللّه، الرّاضون بقضائه وقدره، في كل ما قسم من المنافع والمضارّ، المترفّعون عن محبة الدنيا المؤثرون لها.
وكان المتوقّع ما قاله هؤلاء العارفون بالله، وكان العقاب السريع لقارون المتفاخر الباغي: هو الخسف به وبداره الأرض، حيث ابتلعته الأرض، وغاب فيها، جزاء لبطره وعتوه، فلم يغن عنه ماله ولا حاشيته، ولم يجد من يدفع عنه نقمة اللّه، ولم يكن منتصرا لنفسه، ولا منصورا من غيره. والفئة: جماعة المناصرة والنجدة.
وبعد هذه الكارثة التي أطاحت بقارون وتبيّن حقيقة الأمر، صار الذين يتمنّون أن يكونوا مثله يقولون: { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ} أي بل إن اللّه، يوسع الرزق أو العطاء المادّي لمن يريد خلقه، ويضيّقه على من يريد من عباده، بحسب حكمته ومشيئته، وليس المال المعطى دليلا على رضا اللّه ومحبته لصاحبه، ولا منع المال برهانا على سخط اللّه وكراهيته لعبده، فإن اللّه يعطي ويمنع، ويضيّق ويوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة، جاء في الحديث المرفوع عن ابن مسعود فيما رواه أحمد والحاكم وغيرهما: «إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ».
والمعنى: إن الذين فتنوا بقارون انتبهوا، فتكلموا على قدر علمهم، فقالوا: على جهة التعجب والتّندّم: إن اللّه يبسط الرزق ويضيّقه بحسب مراده.
ولولا لطف اللّه بنا، وإحسانه إلينا، لخسف بنا الأرض، كما خسف بقارون، لأنا تمنّينا أن نكون مثله، بل إن اللّه لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب اللّه وعقابه في الآخرة، مثل قارون ونحوه من عتاة الناس، وطغاة المال، ومردة العصاة من الإنس والجنّ.
العاقبة للمتّقين:
العبرة في الأفعال والأعمال والتّصرفات كلها إنما هي في الغاية والهدف، لأن تصرّفات العقلاء تهدف إلى تحقيق غاية، وإنجاز مطلوب، وهكذا الشأن بين الدنيا والآخرة، الدنيا مزرعة الآخرة، والآخرة هدف العاملين العاقلين، فمن أحسن العمل في الدنيا، لقي العاقبة الحسنة في الآخرة، ومن أساء العمل في الدنيا، وجد أمامه النتيجة الوخيمة والخسارة المحقّقة، فلكلّ جزاء عمله حقّا وعدلا، وثوابا مكافئا، وعقابا مناسبا، وتكون موازين الحساب واضحة، والنهاية مؤكدة ومعروفة، لذا كان القرآن الكريم خير واعظ، وأخلص ناصح، يبين الأشياء قبل وقوعها، ويحدّد الأسباب والغايات المرجوة قبل حصولها، قال اللّه تعالى مبيّنا ذلك:


{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)} [القصص: 28/ 83- 84].
هذا إخبار من اللّه تعالى لنبيّه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بقانونه العام، يراد به حضّ الناس على إحسان العمل وإتقانه، والتحذير من سوء العمل وإفساده، ولوم قارون ونظرائه الذين آثروا الدنيا على الآخرة، فإن الآخرة ليست في حسابات قارون، إنما هي لمن اتّصف بصفات معينة.
والمعنى: إن تلك الدار الخالدة العظيمة، ونعيمها الأبدي المذلّل، دون عناء ولا مشقة، يجعلها اللّه سبحانه وتعالى للذين لا يستعلون على الناس، ولا يتجبّرون عليهم، ولا يريدون أي لون من ألوان الفساد، والفساد يعمّ جميع وجوه الشّر، ومنها أخذ المال بغير حقّ، والعاقبة الحسنة: هي لأهل التقوى الملتزمين بأوامر اللّه، المبتعدين عن نواهيه ومحظوراته.
يدلّ ذلك على أن التواضع لله والناس أمر محمود، وأن العلو مذموم، وأن فعل الصلاح خير، وأن الفساد والإفساد شرّ ودمار.
وقانون الجزاء الإلهي على الأعمال واضح وقاطع، إما في الدنيا وإما في الآخرة، فمن جاء بالفعلة الحسنة، فله خير منها ذاتا وقدرا وصفة، ومن عمل صالحا فله خير من القدر الذي ينتظره موازيا لفعله، لأن فضل اللّه كبير، يضاعف الحسنات، وينمّي الخيرات، ويعطي الثواب الجزيل غير المتوقع بحسب أحوال الدنيا.
ومن جاء بالخصلة السيئة أو الفعلة الشنيعة، المنكرة عقلا وشرعا وعادة، فلا يجزى أصحاب الأعمال السيئة إلا مثلها قدرا، دون زيادة أو ظلم، فضلا من اللّه ورحمة، ومحبة وعدلا، وإبانة لجود اللّه وسخائه، وسعة خزائنه. وهذا دليل على أن فعل السوء وباء وظلام، وتدمير وضلال، وأن السيئة لا يضاعف جزاؤها، فضلا من الإله الغني، ورحمة من الرّحيم الرّحمن.
هذا القانون الإلهي بمضاعفة الحسنات، ومقابلة السيئات بمثلها دون زيادة، يختلف عن قانون البشر ويسمو عنه، فإن الإنسان يعطي إنسانا آخر جزاء مكافئا لعمله، وقد ينقصه في الغالب بسببه ظلم الإنسان لأخيه، أما عطاء اللّه تعالى فلا يحدّه حدود، ولا يبخس منه شيء، سواء كان العمل قليلا أو كثيرا بحسب تقدير الإنسان، لأن ربّك هو الغني ذو الرّحمة، وهو واسع المغفرة، غافر الذنب، وقابل التّوب، لا يجاريه أحد في عطائه، ولا يسبقه أحد في جوده وسخائه.
أفليس من واجب الإنسان إذن أن يرغب في العطاء الكثير الدائم، فيعمل عملا صالحا يؤهّله لنيله؟ أو ليس من وعي الإنسان وإجراء حسابه أن ينفر ويحذر من سوء العمل الذي يعرّضه للخسران والضياع؟!
نعم وتكاليف نبويّة:
النّبوة أو الرسالة مسئولية عظمي، وتكليف ثقيل، يقترن عادة بتخصيص النّبي أو الرّسول بخصائص متميزة، وإمداد بنعم إلهية سامية، لأن ما يتعرّض له النّبي الرّسول من صدود قومه عن دعوته، وإعراضهم عن قبول رسالته يحتاج لصبر ومصابرة، وجهاد ومقاومة، لا يتحملها الإنسان العادي. وقد تشابهت ظروف الرسل في أثناء تبليغ دعوة اللّه إلى توحيده وعبادته وتنفيذ شرعه، ولكن رحمة اللّه ورعايته تحمي الرسول. وتتطلب الرسالة أيضا الحزم والعزم في أداء التكاليف، والتّفاني في القيام بها، والتزام الدعوة إلى توحيد اللّه الحي الباقي الخالد، الذي لا يفنى، ويتفرد بالحكم والقضاء، والمرجع والحساب يوم القيامة، ويفنى غيره ثم يعيده اللّه للمساءلة، قال اللّه تعالى مبيّنا أمورا تتعلق بنبوة نبيّنا:


{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} [القصص: 28/ 85- 88].
الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ...} نزلت بالجحفة حينما هاجر النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، أخرج ابن أبي حاتم عن الضّحاك قال: لما خرج النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة، فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة، فأنزل اللّه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ}.
قال ابن عطية رحمه اللّه في تفسيره: فالآية- على هذا- معلمة بغيب قد ظهر للأمة، ومؤنسة بفتح.
يخبر اللّه تعالى نبيّه ويبشّره بأن الذي أنزل عليك القرآن وأثبته، وألزمك بالعمل به وأدائه للناس، لرادّك إلى بلدك الحبيب: مكة، فاتحا منتصرا، بعد خروجك منها مهاجرا مطاردا، وكان فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي حطّمت به الأصنام، وأزيلت به معالم الكفر والوثنية. ووعد اللّه صادق، ومنجز، وقد تحقّق الوعد كما هو معروف في السّيرة النّبوية، في السّنة الثامنة من الهجرة. والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه، وقد اشتهر به يوم القيامة، لأنه معاد للكل.
وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى} آية متاركة للكفار وتوبيخ، فقل أيها النّبي لمن كذّبك من قومك المشركين: اللّه هو العالم البصير بالمهتدي، مني ومنكم، وعالم بمن هو غارق في الضلال، ومطّلع على من جاء بالهدى، وهو الآتي بالقرآن الكريم، وبما يستحقه من الثواب في المعاد، والإعزاز بالإعادة إلى مكة المكرمة.
ثم ذكّر اللّه نبيّه بنعمته العظيمة عليه وهي النّبوة، فلم تكن أيها النّبي تتوقّع إنزال الوحي الإلهي والقرآن المبين إليك، إلا برحمة من اللّه وفضل، لنفع جميع العباد، وبناء عليه تكون مكلفا بخمسة أمور، مع خبر سادس بعدها:
1- لا تكن عونا للكافرين بأي حال، ولكن فارقهم وخالفهم، وكن عونا للمسلمين، والمراد: اشتد يا محمد في تبليغك، ولا تلن، ولا تفشل (تجبن)، فتكون معونة الكافرين يراد بها: بالفتور عنهم.
2- ولا يمنعنك شيء عن اتباع آيات اللّه المنزلة إليك، بأقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت إليه، وامض لشأنك، فإن اللّه مؤيدك وناصرك، ومظهر دينك على جميع الأديان.
3- وادع إلى عبادة ربّك وحده لا شريك له، وبلّغ دينه، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهّل.
وسبب هذه الآية: ما كانت قريش تدعو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من تعظيم أوثانهم.
4- واحذر أن تكون من فئة المشركين الذين أشركوا بربّهم، فجعلوا له شريكا ونظيرا، فتكون من الهالكين. وهذا نهي عما هم بسبيله، بدئ به النّبي باعتباره القائد والقدوة لأمّته.
5- ولا تعبد مع اللّه إلها آخر، ولا تدع في أي عمل مع اللّه غيره، لأن العبادة لا تستحق إلا لله، ولا فائدة من دعاء غيره.
6- وكل من في الوجود فان أو هالك إلا ذات اللّه، المعبّر عنها بوجهه، فإن اللّه هو الباقي وحده بعد فناء خلقه، وله مهمة فصل القضاء وإنفاذه في الدنيا والآخرة، وإليه مصير جميع الخلائق. وهذا إخبار بالحشر والعودة من القبور، لإيقاع الجزاء على الأعمال، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6